بينما هو جالس فوق جبال خيبته – يحدق في طبقه الصدئ ، ويندب حظه بأن كان عاملا فقيرا بالكاد يجد ما يسد رمقه ، وكأن تلك اللقم الفسيفسائية تكفيه - لاحظَها ! كانت تقترب من طبقه بخفة اللصوص ، تلك الصغيرة ذات الجسد النحيل ، والوجه الأحمر ، أتراها حمرة الخجل منه لذلك التصرف الشائن ، أم هي حمرة العمل تحت أشعة الشمس ؟ تأملها باستغراب .. وسرعان ما أدرك بوقاحتها أن حمرة وجهها لم تكن خجلا على الإطلاق ! فاقترب من قوت يومه الموضوع على أرضية خشبية مهترئة ، ومد يده ليحمي طعامه من جشعها ، فاهتزت واضطربت ، وتحركت بعشوائية ثم هربت ! وكم كانت دهشته كبيرة ؛ لم يتوقعها بتلك الرقة والجبن مجتمعين . ولكنه أشفق عليها ، وشعر بالندم تجاهها ، واحتار في أمره وهو يراها تختبئ منه . أيتركها تأكل من طعامه فتلوثه بقذارة أصابعها التي – لم يكن لديه أدنى شك بأنها – اتسخت نتيجة العمل المرهق والقاسي ، أم يبعدها أكثر كي لا تفسد شهيته ؟ واشتدت عليه سطوة الندم ؛ أفهل يضيره شيء لو أعطاها لقمة ؟ مجرد لقمة تتقاسمها ورفاقها المختبئين معها ؟ وبعد تفكير بسيط ، قال بكلمات ساخطة ساخرة : ومن يشتهي مثل هذا الطعام أصلا ؟! ثم نهض ونفض الغبار عن ملابسه ، ولحق بصاحبة الجسد الغض الضئيل آملا أن تقبل اعتذاره عن لؤمه وأنانيته ... وحين وصل إلى حيث هي انحنى ، ووضع لقمة عند ثقب صغير في أرضية الغرفة ، فخافت هي ومن يرافقها من تصرفه الغريب الذي لا يبرره شيء ! لكنه انسل بسرعة بعيدا عنهم حتى لا يرهبهم أكثر ، وبمجرد أن فعل ذلك ، هجموا على ما جاد به يقودهم جوعهم ! وظل هو يراقبهم منهمكين في تشارك حمل طعامهم يكاد يبكي ... وإذ هو على وشك الرحيل شاهدها مجددا ، بملامحها الدقيقة المميزة ، وخال لوهلة بأنها تنظر إليه وعلى وجهها ابتسامة رضا وامتنان ، فارتسمت على وجهه هو الآخر ابتسامة ، لكنها اختفت بعد ثوان وحلت مكانها تعابير متعجبة لظنه أن تلك الصغيرة قد علاها الاستفهام . ففهم الأمر بعد هنيهة ، وقال وقد لانت ملامحه كثيرا : لعلك تتساءلين كيف منحتك اللقمة الوحيدة التي لدي . لا تستغربي ، فأنا أشعر بمعاناتك جيدا ، وأعلم كم الإنسان ظلّام ، يدوسك دون أي اعتبار لوجودك .. أجل .. أفهمك .. وأحس بك .. فنحن متشابهان جدا .. أيتها النملة ! |